هناك نموذج آخر أوضح وأبين من فرعون ومن أهل الكتاب ومن أبي طالب ، ألا وهو إبليس أعاذنا الله من شره، فهو لم ينكر وجود الله، ولم يكن منكراً لله أصلاً، وإنما قال: (( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، بل يثبت بعض الصفات لله عز وجل فقال: (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ))[ص:82].
إذاً العزة لله سبحانه وتعالى، فهو يقسم بعزة الله ويثبت الصفة لله سبحانه وتعالى، وهو أيضاً مؤمن بالآخرة؛ لأنه قال: (( أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الأعراف:14]، فهو مؤمن بوجود الله، مؤمن ببعض صفات الله، مؤمن بالآخرة، أي: بيوم البعث، فلو كان وجود هذه الأمور عند أحد كافية أن يعد مسلماً أو مؤمناً لكان إبليس أكبر المؤمنين، ثم إن إبليس لعنه الله عالم، والدليل على أنه عالم يعرف الحلال والحرام: أنه لا يعلم شيئاً حراماً إلا ويحث الناس أن يرتكبوه، ما يعلم أنه حق أو خير أو طاعة يحض الناس و يغريهم على أن يجتنبوه، إذاً هو عالم بالحلال وعالم بالطاعة، وعالم بالمعصية وعالم بالحرام، ومع ذلك لم تنفعه هذه المعرفة ولا هذا العلم من ذلك شيئاً مطلقاً؛ لأن الغرض المقصود من الإيمان ليس هذه المعرفة مع الاستكبار والإباء والعناد والمحادة لله ولرسوله، وإنما لا بد من الانقياد والإذعان والإيمان والإخلاص واليقين، نعم قد لا يستطيع الإنسان أن يقوم بهذا الدين وأن يحيطه من جميع جوانبه، لكن يجب عليه أن يلتزم به، وأن يعتقد وأن يعمل ما استطاع مما أمر الله تبارك وتعالى به، فالناس يتفاوتون، لكن لا بد من قدر ما من هذا الإيمان ومن هذا الدين، وإلا كان كل ذلك دعاوى لا حقيقة لها ولا تنفع صاحبها، إذاً كل ما عند فرعون من علم وتصديق في قرارة نفسه بما أنزل الله، أو عند أهل الكتاب من معرفة بحق هذا الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به حق، وكذلك عند أبي طالب ، وكذلك عند إبليس، كل هذا لم ينفعهم عند الله، ولم يكف في أن يكون الواحد منهم مؤمناً، أو يعد من أهل الجنة مطلقاً، والأمة كلها -والحمد لله- مجمعة على ذلك، فتبين بهذا بطلان كلام المرجئة ، ولهذا لم يستطع المرجئة أن يلتزموا هذا اللازم، ونحن لا نقول: إن هؤلاء مؤمنون، وإنما نقول: إنهم كافرون، فهذا الإجماع حجة لنا عليهم، ومهما تمحلوا في رد الإلزام فهو لازم لهم إلا أن يعتقدوا ما قاله أهل السنة والجماعة بهذا الخصوص.